و كان هذا السؤال الذي اعتدت أن ألقيه عليه، منذ أعوام طويلة، كلما ذهبت إلى الريف:
- هل تزوجت يا زنجر؟!
- أبدا.
كان يقولها في شيء من المرارة و الثورة. . فكنت ألاحقه:
- و ماالسبب؟
- ما فيش فلوس!
هذا كان تعليله الوحيد . . و رأيت أخيرا أن أبطل هذه الحجة، فعرضت عليه أن أقوم عنه بكل نفقات عرسه من مهر و فرح و ثياب إلخ . . لو ظفر هو بالعروس. فسرّ لذلك و حمد و شكر، و لكن الأيام مرت و لا نتيجة لهذا و لا أثر . . و لم أعلم ما حدث. و لكني صرت بعد ذلك كلما مشيت بين الحقول و إلى جانبي "زنجر" أتأمل من أجله كل فلاحة تميس بقدها تحت ثقل الجرة، كما بميس العود تحت ثقل السنبلة . . فأسائلها:
- يا بنت . . أتتزوجين الولد "زنجر"؟
فلا أسمع إلا دقة على صدرها و صيحة:
- يا خيبتي!
و تشتد في السير مجفلة هاربة حتى تختفي . . و إذا زنجر بجواري يشيعها و هو مجروح ساخط مغتاظ:
و صدقت و آمنت أخيرا بصعوبة زواجه . . فهذا الرجل تنشأ في القرية أضحوكة، و شبت فتيات القرية لا يبصرن منه و لا يعرفن عنه إلا أنه رمز السخرية، و مناط العبث، و مثار الهذر . . لقد كان في مجرد تقدمه إلى أسرة من القرية سوء أدب منه في نظرها، و تعد منه على كرامتها، و خدش لسمعتها . . إذ استقل شأنها فخصها دون أهل البلد بهذه المهانة و قلة التقدير . . هكذا كانت الأسرة تدفعه عنها كما تدفع الفضيحة . . و بلغ الحال من السوء أن أصبح "زنجر" شخصية تغيظ بها البنت المذنبة إذا أرادت تأديبا . . و لم يشذ عن استخدام هذه "الأداة" التأديبية أحد حتى أنا . . فقد انتهى بي الأمر أن آمنت بما يؤمن به الجميع في القرية . . و صرت إذا أردت أن أشتم بنتنا مهملة من بنات الخدمة في البيت أو حقل أكتفي بقولي:
- والله يا بنت لأزوجك بزنجر!
فتطفر دموع الخوف و الضراعة من عينيها في الحال . . و أدرك أني قد رفعت عليها بهذه الجملة سوطا يقيم عوجها و يصلح فاسدها.
كل هذا و "زنجر" في ملكوت من نفسه، و عالم من رأيه و حصن من "حالة معنوية" عجيبة . . مرتفع فوق لجج الإستهزاء العام، لا تعصف برأسه أنواء، و لا يصل إلى عينيه رذاذ و لا ماء . . لطالما سألت نفسي في أمره: أهو جمود؟ أهي بلادة شعور؟ أم هي صلابة شخصية و قوة الإيمان؟!
- و من التي ترضى أن تتخذها زوجة لك من بين بنات القرية؟
فقال بلا تردد:
- البنت "سلطانة"
يا للعجب! "سلطانة" هذه هي أجمل بنات القرية طرا. هي الزرقاء العينين العسجدية الشعر . . التي يخشى التقدم إليها أجمل فتيان القرية و أقواهم . . هي التي يتنافس فيها المتنافسون، و يتزاحم المتزاحمون، من بين من فرزت مؤهلاته و برزت صفاته . . فما تمالكت أن صحت به:
- طيب اسكت . . اسكت . .
مرت الأيام . . و عدت مرة أخرى إلى الريف بعد غيبة عنه طويلة فراعني ما أجد، و أذهلني ما أرى . .
زنجر قد تزوج . .
تزوج بمن؟
بفتاة أجمل من سلطانة!
و علم زنجر بحضوري، فجاءني و كأنه يقول: "هذه المرة تستطيع أن تسألني السؤال المعهود". و لكني كنت علمت الجواب من قبل . . فاكتفيت بأن أقرأ على وجهه سطور انتصاره . . بل لقد قرأت ذلك على وجوه أهل القرية أجمعين . . لم يعد "زنجر" في نظرهم ذلك "الأضحوكة" . . إن الإسم لم يزل حقا لاصقا به. و لكن قد غسل عنه كل معاني الهزء و السخرية . .
كيف حدثت المعجزة؟ لم يخبرني هو . . و لكن الذي قص عليّ شيخ وقور من شيوخ القرية، قال:
حدث منذ ثلاثة أشهر أن حضرت إلى القرية "ترحيلة" "لنقاوة" الدودة من زراعتة القطن و كان يعمل فيها بنات كثيرات من قرى بعيدة . . فيهن جميلات و فيهن رشيقات . . و كان زنجر هو "الخولي" عليهن . . فإذا هو يلمح من بينهن فتاة هي أسطعهن جمالا، و أوفرهن سحرا، و أكثرهن فتنة . . بل هي حسن لم نر له مثيلا في قريتنا . . فلزمها في العمل، و تودد إليها . . و خفف عنها . . و كان لا يأمرها إلا بمعروف، و لا يعاملها إلا برفق، و لا يحادثها إلا بلطف . . و تفتحت نفسه لها بيضاء جميلة كما تتفتح زهرة القطن . . كانت الفتاة طيبة القلب، فأبصرته "بعين" قلبها و لم تبصره بعين اذنها . . رأت فيه "الإنسان" و لم تر فيه "الأضحوكة" . . فهي من قرية بعيدة لا تعلم عنه شيئا . . فلم يقم بينه و بينها سد قديم من تلك الشخصية المبنية بلبنات الضحكات، في بلده، على مدى الأعوام . . لقد بادلته لطفا بلطف، و عندما قال لها مازحا ذات يوم "تتزوجيني؟" لم يرعه إلا قولها: "نعم" . . فقال لها:
- صحيح؟
فقالت:
- صحيح.
- تحلفي على المصحف؟
- أحلف
و أقسمت أنها جادة . . و أنها لا تطمع في زوج خير منه، فطار زنجر فرحا إلى أهله يزف إليهم الخبر . . و لم يصدق أهله هذا الكلام ألا بعد أن سمعوا قبول الفتاة بآذانهم . . فارتفعت "الزغاريد" في القرية . .و دفع زنجر المهر إلى العروس، فأبوها قد توفي و تزوجت أمها بغيره . . و جاءها بحلق و "غوايش" فضة و خلخال و مرتبة و لحاف و مسندين و مخدتين و حلة و طشت و فناجين قهوة و براد شاي و صينية و أربع ملاعق و أربعة أطباق . . إلخ إلخ . . ثم أعدت العدة ليوم الفرح فأحضروا الجمل و طفق زنجر مع إخوته بزينونه بسعف النخيل و البوص و الجريد و الشال الأحمر . . و أتموا صنع الهودج الذي سيحضرون فيه العروس الفاتنة من بلدها . . كل ذلك بين غناء أهل زنجر و غبطتهم بفوز هذا المظلوم . . و بين نظرات الدهشة و الحسرة و الندم من بنات القرية اللاتي سخرن من زنجر، فأظفره الله بمن لا يصلن إلى كعبها ملاحة و طهارة و دماثة.
أصغيت إلى كل هذا . . و علمت سر "المعجزة" . . لقد جاءه الخير و التقدير ورد الإعتبار من قرية أخرى بعيدة . . هكذا أنصفه الله . . بالطريقة التي أنصف بها من رضي عنهم من الرسل و الأنبياء .
***
مأخوذة من كتاب مدرسة المغفلين لتوفيق الحكيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق